تجهيز

Video -
Installation

ثم هناك أكوام من الوثائق الفوتوغرافية المهترئة بفعل الحرب والزمن. شظايا من مذكراته وشخصياته الغائبة أو الحاضرة، المغتالة أو النازحة، القريبة أو البعيدة، لكن قوة تعبير الفوتومونتاج جعلت من هذه العلبة السحرية (الحقيبة المغبرة الصماء) أشبه برئة حية تتلقف أكوام الوثائق بشبق الشهيق، وما أن تطفح بحشودها حتى تأخذ “الحقيبة – الرئة” حالة الزفير، تتقيأ أحشاءها المتخمة بالذكريات الدامعة الحدادية. لتعاود بشوق ارتشافها من جديد، ثم تعود لتقذف بحممها الرمزية بطريقة غثيانية بركانية وهكذا..

أما الفيديو فقد وجدته أشد تعبيراً وتفوقاً عن كل ما أُنجزَ من فيديو عن “القيامة الشامية” والمحنة السورية الفظائعية حتى الآن. بتغييرها الديمغرافي وطرد أكثر من نصف سكانها خارج خارطة الوطن. لذا فهو يحتاج إلى إعادة عرضه في موقع أكثر قدرة على إشاعته إعلامياً، مثل معهد العالم العربي أو محطة آرت أو القناة الخامسة الثقافية الفرنسية أو سواها.

في عمل الفيديو آرت المعروض إلى جوار اللوحات، سلك علاء منحى آخر، منتقلاً إلى تخييل بصري لما جرى في سوريا بعد 2011، الصور فيه بمثابة وثائق مجهضة تتراكم في ذاكرة على شكل تابوت ترمز إليه الحقيبة، والفنان يلغي نفسه، إن صحّ التعبير، مقتفياً خطى الآخرين. استعيرت حقيبةٌ من عائلة أحد اللاجئين الذين أتوا من البلقان إلى ألمانيا منذ عقود، سالكاً الدروب نفسها التي قطعها اللاجئون السوريون مشياً. تنفتح هذه الحقيبة في بداية الفيديو فنرى في باطنها مرآة صغيرة مكسورة تعكس للفنان وجهه، وتنغلق في النهاية على شكل قبر تعلوه حفنة تراب معشوشبة. هذا العمل سرّع الزمن، معتمداً تسلسلاً كرونولوجياً تكاد تتلاشى صوره فور ظهورها، بالسرعة التي يستهلك بها الألم من دون أي فسحة للتفكير، أما اللوحات فجمّدت الزمن في فوضى الصور التي ما عدنا قادرين على تثمينها وقراءتها جيداً. جذّاب هذا التضادّ بين المقاربتين، أي سيل الزمن الباطش الذي كثّفتْ فيه دقائقُ الفيديو الخمس أعواماً من الإبادة في سوريا المعاصرة، ومن جهة أخرى جمود الزمن داخل الصور الملصقة إلى اللوحة الباعثة على التداعي الحرّ، كأنها سردٌ ملوَّنٌ بلسان متكلّم متوارٍ ينوّع على ثيمة واحدة هي الحقيبة، تنصبّ فيها وتندلق منها المتطايرات. هكذا تغدو اللوحات معابر وممرات بين عوالم خلت وأخرى ستأتي، وربما ارتحالاً معكوساً وغير منتهٍ باتجاه الماضي، حيث كل لوحة عملٌ على الطريق إلى اللوحة.

لكن جمال العمل/الفيديو ليس في هذا السرد ومضمونه، بل في جمال التشكيل البصري، واستعادة الرموز التي قدمت بأناقة وتكثيف من دون مشاهد مؤذية. فالفنان حرِص، كما قال في حديث لـ “المدن”، على أن لا يزعج المتلقي بمشاهد الدم، بل إنه يقول إن تلك العبارة المكررة في الإعلام “نعتذر عن عرض الفيلم بسبب قسوة المشاهد” كانت ملهمة له في عمله: “أردت أن ألخّص الثورة من دون أن أزعج المتلقي وأحمّله عبئاً نفسياً”.

share:

© 2024 All rights Reserved. Ala' Hamameh